قيمة الفن في ظل الثورة الصناعية الرابعة




في 11 مارس من العام الجاري، تم بيع عمل رقمي للفنان الأميركي بيبل في مقابل 69.3 مليون دولار خلال مزاد لدار "كريستيز"، وفي الخميس 25 مارس، باع الصحفي في "نيويورك تايمز" كيفن روس أحد مقالاته بنسق رقمي فمقابل 560 ألف دولار، في أحدث تجليات الشغف المتصاعد بتكنولوجيا "إن. إف. تي"، وهذا المقال كان مخصصًا لمبادرة من الصحفي كانت ترمي إلى اختبار السوق وتوسيع نطاق الأعمال الرقمية المباعة بتقنية "إن. إف. تي". الأمر الذي آثار فضولي بشكل كبير، فبدأت أبحث عن هذا النوع الجديد من التقنيات التكنولوجية التي غزت عالمنا بفعل الثورة الصناعية الرابعة التي تميزت بدمج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ولكن الواقع الذي نعيشه في وقتنا الحالي هو امتداد تأثير هذه التقنيات على الفنون والثقافة، حيث أنها لم تتوقف عند انتاج الربوت صوفيا، التي تجوب العالم وتقابل مسؤولين رفيعي المستوى، وتتحدث في مؤتمرات لمؤسسات مرموقة، بشكل يخلق انسجامًا بينها وبين المتفاعلين متجاوزين حدود الآلة، ليس هذا فقط بل امتدت هذه التقنيات لتغير من شكل النقود التقليدية إلى نقود رقمية، "دي طلعت ثورة صناعية بصحيح". وبالعودة إلى الحدث الأصلي وهو بيع مقال صحفي و عمل رقمي ،دعونًا أولًا نتطرق إلي ما المقصود بتقنية (NFT)؟، هو اختصار للمصطلح Non-Fungible Tokens))، ويقصد بها الرموز غير القابلة للاستبدال وهي تستند على تقنية متشعبة معروفة بالبلوك تشين وهي الأساس الذي ترتكز عليه العملات الرقمية كالبيتكوين والايثريوم، والتي اكتسبت شهرة واسعة في السنوات الاخيرة بفعل تصاعد التقنيات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي. ومع تصاعد هذه التقنية فقد آثارت تسأولًا هامًا، يتعلق بماهية الفن وأشكاله وأنماطه المستحدثة تبعا لما يعيشه من تطور تكنولوجي يهيمن بالضرورة على المشهد الحياتي البسيط كما يملي على عقولنا أساليب فكرية وردود أفعال واعية وغير واعية. وبعد التمعن والتدقيق، كان لابد من الإشارة إلى أن الفن بالفعل مثله كمثل باقي المجالات التي تأثرت بالتكنولوجيا بشكل كبير، وهو ما يعتبر سمة جديدة اكتسبها الفن في العصر الحديث، فقد أدت إلى اختلاف شكل الفن وتغيرت أدواته بدلًا من اللوحة والألوان والقلم أصبحت القيمة تتجسد في "الشفرة" التي تتكون من أكواد –رموز فريده- يتم كتابتها للحصول على صورة بشكل معين، أو مقال ، ولكن السؤال هنا هل يبقى الفنان بمنأى عما تشهده المجتمعات الحديثة من ثورة تكنولوجية ومعلوماتية في ظل الإيقاعات المتسارعة للزمن؟! من المرجح أن هذا التسارع ربط القيمة بالشفرة" التي غيرت من مفهوم الاقتناء وحولته من امتلاك قيمة معنوية إلى اعتبار الامتلاك هو القيمة بذاتها، لقد تحول الفن في عصر التكنولوجيا بشكل كبير ليس هذا فقط بل تغيرت شكل المزادات التي تعرض فيها الاعمال الفنية بدلًا من المزادات التقليدية، حتى أن العملات أو قيمة العمل الفني تغيرت فبدلًا من العملات التقليدية أصبحت هناك عملات رقمية أيضًا. ولكن ينبغى أن نكون منصفين عند المقارنة بين العمل الفني التقليدي وبين العمل الفني الرقمي، ففي الأول نجد أن العمل الفني يكسب قيمة كبيرة من وجوده المادي الملموس للمشاهد ما يجعله يخلق رابطًا معنويًا مع المشاهد ويربطه بحدود العمل المتعلقة بالمكان والزمان والسياق وغيرها، كما هو الحال بالنسبة لقراءة مقال بطريقة رقمية وبين قراءة مقال بشكله التقليدي، وهذا على العكس من الأعمال الرقمية التي تعتمد على شفرات معينة ولا تخلق انسجامًا أو ترابطًا مع المشاهد بنفس تأثير العمل التقليدي، بالإضافة إلى أن اقتناءها سواء من مالكها الأصلي أو من غيره من الأفراد الذين يستطيعون الاحتفاظ بها في صورة صورة او أكواد، على عكس العمل التقليدي. فعلى سبيل المثال رؤيتنا لـ"الموناليزا" في متحف اللوفر تختلف كثيرًا عن مشاهدتها على حوائط المنازل أو على منصات التواصل ففي كل سياق يتم عرض الصورة فيه تخلق حالة مختلفة من الروابط مع المشاهد، على عكس الصورة الرقمية فهي نفسها سواء لدى المالك أو حين تداولها على مختلف المنصات، تمامًا مثل الأعمال الكتابية. باختصار.. كل ما سبق يجعلنا نعترف أنه لا مفر من تأثير الثورة الصناعية على شتى مناحي الحياة المختلفة، وأنا ما يتوجب علينا هو تقبل هذا التغير الجذري في قيمة الفن والثقافة وغيرهم، وهذا التغيير يتطلب وجوبية وجود تنظيم وتشريع يتماشى معه.